تكشف أسرار الشعور بالوحدة وانتشار الإحساس بالغربة.. “رب جملة بعشرة آلاف جملة” رواية صينية ترصد حياة البسطاء في الصين ومجتمعاتهم الفقيرة
أحمد عبد الحافظ
تدور أحداث رواية “رب جملة بعشرة آلاف جملة” التي كتبها الروائي الصيني الشهير “ليو جن يون”، وترجمتها عن اللغة الصينية المصرية مي شاهين، حول رحلة جد يبلغ من العمر 70 عاما يدعى “وو موسي” الذي غير اسمه إلى “لوه تشانغ لي” ربما من أجل التخفي والتواري من شئ ما، وهو يتحرك من مكان إلى آخر بحثا عن ابنته، “تساو تشين إه”، فقد كان يعتقد أنها الوحيدة التي يمكنه أن يشارك معها مشاعره العميقة، وأحساسيه الصادقة، إلا أنه مات قبل أن يعثر عليها، ثم لحقت به هي، وتركت ابنها “نيو آيقوه” يعاني مرارة البحث للعثور على ما يدله على أسرار عائلته.
ومع تطور الرحلة وتوالى تفاصيلها وفصولها وأحداثها بعد انطلاقها من مدينة “يانجين” التي تقع ضمن إقليم “خان” شمال شرقي الصين، مسقد رأس الكاتب، يصاب الحفيد “نيو آيقوه” بعدوى الترحال التي أصابت جده قبل عشرات السنين بحثا عمن يستطيع أن يتحدث إليهم ويصادقهم ويستمع إليهم ويستمعون إليه بقلب مفتوح، حينها يتجه “نيو آيقوه” إلى مسقط رأس والدته ليتعرف على أصدقائها القدامى، ويستقي أسرار ووقائع سنوات مضت في مدينة “يانجين” التي تقع ضمن الإقليم، وهو ما يشير إلى أن دوائر الاغتراب في المجتمع الصيني تتوالي ولا تنتهي حيث يتسلمها الأبناء من الاباء.
الرواية صدرت في سلسلة الجوائز التي تشرف عليها هيئة الكتاب المصرية، وتقع في جزئين، يتتبع كل منهما تفاصيل حياة شخصية أساسية تتحرك في قلب الأحداث، وتدعى الشخصية الأولى “يانغ باي شون”، أما الثانية فهي “نيو آيقو”، وخلال حركتهما في فضاء الأحداث يظل كل منهما طوال الوقت في رحلة بحث عن الآخر، ليبلغه كلمة مخلصة من القلب مفادها أن غربة الإنسان الحقيقية تحدث حين يشعر أنه بحاجة إلى البحث عن الآخر، من أجل أن يحاوره، ويبادله الحديث، لكن عندما يجده ويرتاح إليه ويجلس معه، يكتشف كل منهما أنه في واد وصديقه في واد آخر، فلا توجد نقطة التقاء بينهما، وقتها يسيطر الصمت بثقله، ويصير الشعور بالغربة بينهما أقسى من الشقاء بالوحدة التي كان يسعى لتلافيها وهو يبحث عن صديقه.
أحداث الرواية
خلال أحداث الرواية يسعى مؤلفها “ليو جن يون” لخلق نوع من الحوار الحضاري بين ما جاء في كتاب “المحاورات” لحكيم الصين كونفوشيوس، وبين ما ورد في “الإنجيل”، حيث يقارن بين ما جاء على لسان الحكيم الصيني وهو يقول “ما أجمل أن يلقى الإنسان صديقا آتيا من وراء تلال السفر البعيدة”، وبين ما تصرح به العبارة الأولى في العهد القديم، لكي يبرر الفروق الشاسعة بين المجتمع الصيني والمجتمعات الغربية، حيث يثمن الأول، حسب ما جاء في مقدمة الرواية التي كتبها الدكتور محسن فرجاني، العلاقة بين الناس بعضهم بعضا، في حين يهتم الثاني بالعلاقة بين الإنسان والعالم، ويحاول كاتب الرواية أن يبرز الفروق الحاسمة في الخصائص الاجتماعية بين الثقافتين، وهو ما يتضح من الموقف الذي يتحدث فيه عن شخصية المبشر الإيطالي الذي جاء إلى بلدة يانجين من أجل القيام بتعميد ستة أشخاص بينهم “باي شون” الشخصية الرئيسية في القسم الأول من الرواية، حيث يظهر الجميع عاجزين عن العثور على عبارة صادقة بشكل مطلق، ويغرقون في نوع من الحيرة التي يرى الكاتب أنها مسؤولة عن الإحساس الفادح بالاغتراب.
أبناء الطبقات الدنيا في المجتمع
ولا يتوقف ليو جن يون عند ذلك المنحى الثقافي، بل يسعى، من خلال تناوله لحياة أبناء الطبقات الدنيا في المجتمع من حلاقين وباعة في الأسواق ومزارعين ونائحين على الموتى، إلى أن يحلل أسباب الشعور بالوحدة الذي يصيب الشعب الصيني، ويضرب مجتمعاتهم، حيث يركز على التفاصيل البسيطة والعادية لدى عامة الناس، وهم يسعون لرأب صدع أحلامهم الضائعة وطموحاتهم المبتورة، ومعاناتهم وبؤسهم، وهم يتنقلون من عمل لآخر بحثا عن الرزق، عندما تبور صنائعهم، وهو ما يظهر واضحا في شخصية “لو جيانغ لي” الذي هجر صناعة الخل مهنة عائلته المتوارثة، وراح يعمل نائحا على الموتى، فقد كره أن يصيح على قواريره في السوق، وأحب النواح.
أما تاجر الحمير “لاو بهي” فقد أجبرته زوجته بعد أن اكتشف خيانته لها على ترك تجارته، التي تسهل له السفر والغياب عن منزله لفترات طويلة، ودفعته لأن يعمل في مهنة الحلاقة لكي تجعله تحت رقابتها، فلا يسهل له ارتكاب فعلته مرة أخرى.
هذا المناخ الذي يغرق الكاتب قراءه في دواماته، ربما كان السبب الذي جعل الرواية تحظى منذ صدورها في يناير عام 2009 باهتمام كبير، وقد استغرق “ليو جن يون” ثلاث سنوات في كتابتها، وقد بدأها عام 2006 وانتهى منها عام 2008، وفي عام 2011 حصل بها على جائزة ماو دون للأدب الصيني، وتعد “رب جملة بعشرة آلاف جملة” أول عمل في تاريخ الأدب الصيني يركز كاتبه على أزمات الشعور بالوحدة الذي يلازم الصينيين على مر العصور، ويقوم ليو من خلال قسمي الرواية بتحليل عميق للاغتراب والوحدة التي تمسك بتلابيب الكثيرين في بلاده.
وتعكس بؤر الصراعات بين الشخصيات في الرواية محاولاتهم الفاشلة للتواصل الودي، حيث يكتشفون أنه مفقود دائما تحت سطوة الخيانات الزوجية، والسخرية من بعضهم البعض، والسعي لكسب الرزق في كثير من الأحيان، ومن خلال تلك الإحباطات يتابع الكاتب حياة الفلاحين والحلاقين وصغار البائعين ويسعى لتقصي أسرار هموم وجودية وإنسانية تبدو قديمة، وقد سعى وهو يرسم شخصيات الرواية لأن يضع يده على معان حقيقية في حياة البشر بشكل عام وأبناء وطنه بشكل خاص.
ولد “ليو جن يون” عام 1958، وتخرج من قسم اللغة الصينية وآدابها بجامعة بكين، وقد كتب أكثر من اثنتي عشرة رواية، نالت جميعها شهرة كبيرة، وتحولت إلى أعمال درامية، حققت نجاحا كبيرا لدى مشاهدتها، وتم تكريمه بالحصول على لقب “أقرب روائي للأفلام”.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي