الابتكار والملامح الإنسانية والغرابة من أهم عناصرها.. سينمائي مصري يحلل 30 فيلما من كلاسيكيات السينما العالمية
أحمد عبد الحافظ
يتضمن كتاب “كلاسيكيات السينما العالمية” تحليلا مفصلا لنحو ثلاثين فيلما من روائع كلاسيكيات السينما القديمة الصامتة والناطقة. وقد صدر حديثا عن دار خطوط وظلال الأردنية تأليف الناقد السينمائي المصري أمير العمري، والذي يرى أنها تزخر بخصائص صارت مع مرور السنين من أساسيات الفن السابع، وجعلت تلك الأفلام تصمد في مواجهة الزمن. وقام المؤلف بترتيب فصول الكتاب حسب تواريخ إنتاج الأفلام، وقدم الكلاسيكيات القديمة الصامتة أولا، ثم جاءت بعد ذلك الكلاسيكيات الحديثة أو الأحدث، مثل “نظرة عوليس” الذي أخرجه اليوناني أنجلوبولوس عام 1996.
وفي بداية الكتاب سعى العمري لتوضيح السمات الأساسية التي يمكن على أساسها وصف فيلم ما بأنه كلاسيكي، وقال إن “الكثير من هواة السينما، وحتى المشتغلين بها، يعتقدون أن الكلاسيكيات هي الأفلام القديمة والصامتة فقط، وهذا غير صحيح، فقد قدم السينمائيون عددا من الكلاسيكيات في أزمنة حديثة تالية، وذكر أن هناك من السينما الحديثة ما يطلق عليها بعض النقاد في الغرب “الكلاسيكيات الحديثة” تمييزا لها عن القديمة، وهذا رأي غير دقيق، حسب وجهة نظر العمري، فالعبرة عنده ليست بعمر الفيلم بل بقدرته على الصمود في وجه الزمن، وتأثيره الذي يتغلغل في ذاكرة المشاهدين، ويدفعهم لمشاهدته مرات عديدة، فتزيد متعتهم، ويكتشفوا في كل مرة شيئا جديدا.
وذكر العمري أن الثراء الفني، في الشكل واللغة وعناصر السينما وقدرة صناع الفيلم، على صياغة عمل مؤثر ومبتكر، يمتلك الكثير من مظاهر الدهشة والجمال، تعتبر من أهم الشروط التي تجعل الفيلم كلاسيكيا، وهذا يمكن ملاحظته على نحو مثالي في فيلم الرعب الألماني “خزانة الدكتور كاليغاري”.
أبعاد إنسانية وكشف أغوار النفوس
تدور فكرة فيلم “خزانة الدكتور كاليغاري” كرأي العمري حول “التحكم” أو “السيطرة”، وكيف يمكن لشخص يمتلك سلطة أن يتحكم بمصائر الآخرين، وقد قام بأخرجه الفنان الألماني “روبرت فينه” قبل مائة وعشرين عاما، ودخل تاريخ السينما باعتباره أحد الكلاسيكيات الكبرى. ويتضمن الكثير من الديكورات الغريبة الضيقة الخانقة التي صممها الفنانون التعبيريون الذين استعان بهم “فينه”، والتي تعد بمثابة ثورة في عالم السينما عندما كانت في بداياتها، وقتها قدم كل من “وولتر ريمان” و”هيرمان فارم” وهما من أشهر الفنانيين التعبيريين الألمان رسوما وتصميمات لرؤية فنية تقوم على التعبير الذاتي عن الواقع، وليس تجسيده، وذلك من منظور الفرد المحبط المضطرب الذي يعاني من الهواجس وانعدام الثقة في الآخرين، وتشي الرسومات والتصميمات بعلاقة الفرد بالواقع، وكيف يراه ويتفاعل معه، وهي صور “تعبيرية” تعكس الخوف والقلق والكوابيس المرعبة، وتستخرج ما يدور داخل الذهن البشري، والذي لا يتجانس بالضرورة مع الواقع.
وبهذا التصور لا يخضع الفيلم للواقع بل يتجاوزه لأنه ابن رؤية فنان، يبرز من خلالها هواجسه الداخلية العميقة في سياق الملامح الخاصة للتعبيرية التي تصور الغرف كمقابر، والشوارع مائلة، والسلالم حادة الزوايا. إلى جانب استخدام الإضاءة لتوليد الظلال القاتمة والتركيز على الوجوه من خلال استخدام دوائر مغلقة تحبس الشخصيات، وتظهر الانفعالات على الوجوه بطريقة مبالغ فيها، مع تضييق المساحات أو الفراغات داخل الصورة، وتصوير الجدران التي تمتلئ بالصور والرسوم الغريبة، والأسقف المنخفضة فوق الرؤوس مباشرة.
وأشار العمري إلى أن العالم في الفيلم يبدو كأنه سجن، فلا تؤدي الشوارع الملتوية الضيقة إلى شيء، وتظهر العمارات والمباني نحيفة مدببة، والمنازل أقبية مليئة بالأسطح المدببة. هذه الصور وغيرها هي ما تشكل الرؤية البصرية في الفيلم، ليصبح نموذجا كلاسيكيا في استخدام التعبيرية، التي تجعل صورة الواقع “السينمائي” منفصلة تماما عن الواقع الحقيقي.
الفيلم الكلاسيكي
يشير العمري إلى أن الفيلم الكلاسيكي قد يشمل التعبير عن فترة زمنية لم نعيشها، يعيد تأسيسها وبنائها بحيث يمكن لنا أن نستخرج من الفيلم ومن القصة المعروضة نفسها، الكثير من المعاني الإنسانية التي تجعلنا أكثر معرفة بتلك الفترة الزمنية، وأكثر دراية بما فيها من جمال، بل وأكثر فهما للحاضر أيضا على ضوء الماضي.
ومن بين هذه الأفلام التي تتمتع باهتمام كبير ومستمر يأتي فيلم “ذهب مع الريح”، وهو اهتمام لا يرجع فقط إلى جودة العناصر الفنية، من إخراج وتمثيل وديكورات وموسيقى. ولكن أيضا في مشاهد المعارك الحربية والتي تبدو كما لو كانت واقعية، وهي تجسد وقائع الحرب الأهلية الأمريكية عموما، وتبدو مبهرة، وكأننا أمام استعادة مجسدة للتاريخ، أما العنصر الأكثر جاذبية لدى الجمهور ، فيتمثل في المعاني الإنسانية التي تنبع من قصة الفيلم مثل بشاعة الحرب وقسوتها، والحب الذي يسمو فوق كل شيء، والغيرة التي تدمي القلوب.
وهكذا يرى العمري أن المعاني الإنسانية التي تلمس مشاعر الجمهور، تأتي ضمن العوامل التي تجعل فيلما ما يصبح من الكلاسيكيات، وخصوصا الأفلام الأولى الصامتة التي أعيد إحياؤها وأصبحت محفورة في ذاكرة جمهور السينما مثل “العصر الحديث” لشابلن، و”نابليون” و”صندوق باندورا” وقد خصصا لها فصولا في الكتاب وتناولها بالتحليل وسلط الأضواء عليها.
وأشار العمري إلى أن كثيرا من أفلام المخرج البريطاني ألفريد هيتشكوك أصبحت من الكلاسيكيات لقدرتها على إثارة مشاعر الجمهور في كل مكان، وذلك بفضل ابتكاراته الخاصة في تعامله مع الوسيط السينمائي، وما تولده أفلامه من شعور بالصدمة، وهي تكشف الغامض والمثير والمجهول في النفس البشرية، ووذكر أن أفلام هيتشكوك مهما بلغت من الغرابة لا تفقد المصداقية، فقد جعلها مقبولة ومفهومة ومرحبا بها.
ولتوضيح ذلك، قام العمري بتحليل فيلم “الساكن” لهيتشكوك والذي قدمه عام 1927، وهو أحد الأفلام الأولى له، وفيلم “2001.. أوديسا الفضاء” وهو من الأفلام الأحدث التي حفرت اتجاها جديدا في السينما للمخرج الأمريكي ستانلي كوبريك، ورأه العمري عملا غير مسبوق في مجال أفلام “الخيال العلمي”، رغم أنه لم يكن يعتمد على مؤثرات بصرية متقدمة مثل التي تتوفر اليوم.
أما فيلم “بوني وكلايد” فيذكر المؤلف أنه أصبح نموذجا مؤثرا لفيلم الجريمة الذي يدفع المشاهدين إلى الإعجاب حد الهوس ببطليه اللذين يسرقان ويقتلان عند الضرورة. ويتساءل العمري لماذا أصبح هذا ممكنا، وكيف كان طبيعيا أن يرسخ الفيلم في الذاكرة ويصبح حتى أقوى تأثيرا من القصة الحقيقية الأصلية؟، والجواب عنه أن ذلك يكمن في القدرة على التعامل مع الإنسان في فردانيته وعزلته وشعوره بالغضب والتمرد والرفض والاحتجاج على الظلم.
ويضيف العمري أن تميز الفيلم بالابتكار هو ما يجعل فيلما ما كلاسيكيا يبقى في الذاكرة، ويستمر الاحتفاء به حين ينجح صانعه في تطوير أبجديات السينما والصنعة السينمائية، وخلق بطل مثالي أو بطلة نموذجية تظل صورتهما في الأذهان ولو عبر قصة “بسيطة”، تكون رغم ذلك موحية بالكثير من الأفكار وتولد الكثير من المشاعر التي تربط بين البشر وتوحد بينهم رغم احتلاف الثقافات والأجناس والانتماءات.
قال المؤلف إن الابتكار الذي يعكس طموحا بل ومغامرة مدهشة في تطويع الوسيط السينمائي لخيال فنان السينما يتضح في الفيلم الصامت “نابليون” لأبيل غانس، وفي “المواطن كين”، هو ما يميز الكثير من الأفلام التي أصبحت راسخة في ذاكرة الملايين عبر العصور، وضمنت لها بالتالي مكانا بين “الكلاسيكيات”.
ولم يتناول العمري في كتابه أفلاما شهيرة رائجة بين الجمهور العريض فقط، بل قام بتحليل أفلام أخرى تنتمي لسينمات خارج أمريكا وهوليوود، دخلت تاريخ الكلاسيكيات السينمائية، ويعرفها جمهور السينما الفنية الرفيعة، وبعضها أفلام ظهرت في الاتحاد السوفيتي السابق مثل “أغنية البجع الطائر” أو “سيبيرياد”، وأفلام أخرى خلقت اتجاها جديدا مثل تيار السينما السياسية، وأشهرها “قضية ماتيه” الإيطالي، و”زد” الفرنسي. وقد قام العمري في الكتاب بتسليط الضوء على ذلك النوع من الأفلام، وأظهر أهميتها السينمائية، وقيمتها التاريخية.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي