إبداعات عربيةعاجل

قاموس الشعرية من القدماء إلى المحدثين… دراسات معمقة تستقصي العلامة المائية لإبداعات عصر النهضة والحداثة والمعاصرة الأوربية

 

أحمد عبد الحافظ

ينقسم قاموس “قاموس الشعرية… من القدماء إلى المحدثين” إلى جزئين الأول يتضمن عشرين مقالا حول الشعرية وجذورها القديمة لدى العديد من الفلاسفة والكتاب والشعراء اليونانيين والرومان، والتراث الشعري المسيحي، أما الثاني فهو عبارة عن أنطولوجيا خصصها المؤلفان الكاتب باتريس سولير الذي كان مدرسًا في مدرسة ليسيه لويس لو غراند الروائية والناقدة الفرنسية شانتال لابري المعلمة في مدرسة ليسيه فينيلون في باريس، للتعريف بالفنون والأنواع الإبداعية التي ورد ذكرها في القسم الأول.
وصدر القاموس عن دار الرافدين العراقية، وقدم نسخته العربية الكاتب المصري لطفي السيد منصور، وهو بعنوانه هذا يكشف عن الفكرة الأساسية التي أراد مؤلفاه التأسيس لها، وهي علاقة الشعرية، بالجذور القديمة والتراث الأبداعي الذي تركه أرسطو بكتابه عن الشعر، وهوراس بكتابه “فن الشعر” فضلا عن تأملات “شيشرون” و”كينتيليان” حول فن الخطابة، و”أطروحة السامي” لـ”بزيدو- لونجن”.

معنى شعريات العصور القديمة

يقول المفكر الفرنسي باسكال كينيار في مقدمته للقاموس إنه مما لا شك فيه أن الاتصال بالعمل الابداعي كان في العالمين اليوناني والروماني جزءًا من الأداء والعرض، وكانت القراءة العامة ممارسة اجتماعية واسعة الانتشار، ودائمًا ما كان يعتقد القدماء أن الفن يتمتع بوظيفة علاجية أو تطهيرية.
ويفرد المؤلفان في القاموس مساحة كبيرة للأجناس والأشكال التي يعود مصدرها وحيويتها للعصور القديمة، وتظهر فيها ثوابت شعرية، كما يسعى كل منهما للتذكير بمدى تأثير الشعرية القديمة، والتي تجوب آثارها التلميحة أو الصريحة وتتسرب داخل النصوصَ الحديثة، ومنها السيرة الذاتية، والتي وصفها القاموس بأنها حكاية استعادية، نثرية، يعيشها المؤلف بصيغة الشخص الأول الذي يروي وجوده الخاص، وهو وجود يُفهم على أنه الحياة المعيشة لفرد واحد بشكل واقعي، وهي حياة تبدو منطقية بفضل الطابع المؤقَّت الذي يميز المراحل والتغييرات في تكوين الشخصية.
وهذا الطابع المؤقت، حسب ما جاء في القاموس، ضروري، هنا تصبح الحياة وجودًا، ولا يمكن فهمها على هذا النحو إلا إذا كانت في حالة بحث سردي، إنها عمل ذاكرة حية وحيوية تريد أن تقبض على الزمن في حركته ذاتها. وتُقَيَّم السيرة الذاتية، بصرف النظر عن محتواها، بإيقاعها، وفيضانها، الذي ليس مرادفًا للبوح هنا، ولكنه يستحضر قوة الموج، وحقيقة شيء ما يفيض، يمتدُّ، ويتشكَّل فقط من خلال التدفُّق، وتكشف السيرة الذاتية كل ثنايا الروح، وتَبسِطها، وتجعل القارئ الممثل الوحيد في توليفة محتملة، وهو وحده الذي يمكنه الحكم عليها، وهذا ما يلاحظه المفكر والناقد السويسري جان ستاروبنسكي، وهو يتحدث عن “اعترافات” جان جاك روسو، فالسيرة حسب وجهة نظره تتطلب وجود تماثُل بين المؤلف والراوي.

المفكر الفرنسي باسكال كينيار
المفكر الفرنسي باسكال كينيار

الآثار السلبية لتجاهل الأثار القديمة للإبداع

يشير كينيار إلى أن تجاهل الآثار القديمة في إبداعات المحدثين يعتبر نوعا من قِصَر النظر الذي يُفلت العلامة المائية للنصوص، حيث تعتبر معرفةَ هذا الأصول بمثابة التزوُّد بوسيلة لتصويرها بالأشعة السينية، ولتوضيح ذلك يستعيد كينيار تعبير “جان ريكاردو” بأن “ثمة طريقة معينة لمحبة أدب الماضي الذي يتيح ولا يمنع فهم أدب اليوم.
جاء القاموس عبر مقالاته وهو يستعرض التراث القديم من كتابة الذات، ورموزها من المبدعين القدماء، وسعيهم للتركيز على المعنى، وحضور الأنا داخل كلامها، بمثابة قراءة استعادية تبرز، إلى جانب السمات التي تتغير وفقًا للعصور وتجدد الأجناس، ثوابتَ عبر تاريخية يمكن اكتشافها وتتبعها في النصوص الحديثة.
ولم يتوقف سولير ولابري عند حدود معينة وهما يبحثان عن الأسس القديمة للشعرية، فقد تحدثا باستفاضة عن كتابة “البورترية الذاتي” عند الشاعر الروماني أوفيد، خاصة في كتابة “المحزونون” والذي يختار خلاله يختار، وهو يكتب قصائد الرثائية، خيال الرسالة إلى صديق، وهو بهذه الاستراتيجية يعيد اكتشاف الاتصال المؤجَّل المناسب للرسالة الحقيقية وللخيال بشكل عام.

القصيدة الرعوية

يركز القاموس أيضا على عدد من القواعد والأعمدة القديمة التي استندت عليها الشعرية في تجلياتها الحداثية والمعاصرة، ومنها القصيدة الرعوية، التي تسربت الكثير من سماتها من الشاعر الروماني فيرجل الذي عاش ما بين ” 70- 19 ق.م” إلى بول فاليري “1871-1945″، وريمون كوينو ” 1903 1976″ و خوسيه ماريا دي هيرديا “1842 1905” وغيرهم كثيرين، كما يفرد القاموس مساحة للحديث عن “الجوقة” وسماتها قديما وحديثا، و”المحاورة” باعتبارها جنسا أدبيا يجمع بين اثنين أو أكثر من المتحاورين، في عملٍ يحاكي الخطابات وليس الأفعال، وهناك مقالات حول “الرثاء” و”المديح” و”الملحمة” و”الحكاية الخرافية الرمزية” و”رسالة البطلة” وهي كما يراها مؤلفا القاموس “رسالةُ حبٍّ مكتوبةٌ شعرًا، مرسَلة من بطلة إلى بطلٍ هجرها، زوج غير مخلص، عاشق لا يثبت على حال”، وقد كتب “أوفيد” مجموعة من نحو عشرين رسالةً للبطلات، انتقلت إلى الأجيال اللاحقة تحت عنوان “رسائل البطلات”، نحو 20 قبل الميلاد، وهي قصائد تمر عبر سلسلة كاملة من عذابات الحب منذ ولادة العاطفة، والنشوة، على حد تعبير رولان بارت.
وهكذا ومن خلال المقالات التي رتبها سولير ولابري حسب الابجدية، وتركزت حول “قصيدة الأود” و”الملحمة” و”الهجاء” وغيرها من الأنواع الأدبية والشعرية بدا الهدف واضحا، من أول وهلة، وهو ربط أجناس معينة، في ممارساتها الحديثة والمعاصرة، بشعريات العصور القديمة الإغريقية والرومانية. حيث صار عصر النهضة، مثلا، حديثًا بعودته إلى العصور القديمة، وجاءت الدراما الباروكية، التي أعاد ابتكارها “كلوديل” من تراث “إسخيلوس” وهو ما يشير إلى أن الموضوعات الهامة والأشكال الشعرية الكبيرة تتشكل عبر القرون.

الكاتب المصري لطفي السيد منصور
الكاتب المصري لطفي السيد منصور

الشعرية باعتبارها تراثًا

من هنا يمكن ببساطة ملاحظة ما أراد المؤلفان التركيز عليه، وهو أن فكرة الحداثة المعزولة عن التراث تظل غير مؤكدة، وقد لاحظ الروائي الفرنسي”ميشيل بوتور” بالفعل أنَّ ثمة عودة إلى أول الأمس، تحدُث في الأدب الفرنسي، وهي لا تعني بالطبع التخلِّي عن الحداثة، بل الرغبة في التموضع داخل تراث أطول، حيث تبدو أحيانًا محاكاة ساخرة، وقد أعاد الكتاب والمبدعون والمفكرون في أوروبا وأمريكا اكتشاف “الأسلوب القديم”، وهو ما بدا في موضوع التهليل النوستالجي والساخر لشخصية بيكيت، وكذلك عند كل من الشاعرين الفرنسيين “مارك تشولودينكو” في قصائده “أود” و”إيمانويل هوكار” وهو يستعيد في قصائده شكل المرثية، فالشاعر حسب وجهة نظره حارس لا إرادي للحياة اليومية، يتذكر ما يريد أن يتذكره.

توسيع مصطلح الشعرية

أخيرا يمكن ملاحظة أن مؤلفا القاموس سعيا إلى توسيع الإمكانيات التي يتيحها مصطلح “الشعرية” إلى “شاعرية تدعو إلى دراسة العديد من الأشكال، وكذلك الأجناس، لكنهما في الوقت ذاته اختارا عدم مضاعفة المواد إلى ما لا نهاية، وعدم زيادة المدخلات في القاموس، مُفضِّلين الاشكال الإبداعية التي تبرز الرهان على التراث.

 

 

 

لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي

زر الذهاب إلى الأعلى