“في خطاب السرود الإماراتية المعاصرة” .. يكشف خصائص أدب الرحلات والرواية هناك
أحمد عبد الحافظ
سعى الناقد الجزائري الرشيد بوشعير إلى كشف الصلة بين الرواية الإماراتية والكتابات التي ساهم بها المبدعون في مجال أدب الرحلة، وحاول في كتابه “في خطاب السرود الإماراتية المعاصرة” وضع يده على الفروق والخصائص التي تميز أدب الرحلة الذي يكتبه مبدعون رجال، عن غيره مما تبدعه الكاتبات، كما اهتم بوشعير ببحث مدى استفادة الرواية الإماراتية من نظريات علم النفس، والاجتماع، وتوظيفها للحكاية الشعبية، ما يعكس الكثير من اهتمامه بتطور فنون السرد الإماراتية وأشكالها، وخاصة في مجال الرحلة والرواية.
خصائص ذكورية وأنثوية لأدب الرحلة
يتضمن الكتاب، الذي صدر حديثا عن دار صفصافة للنشر والتوزيع المصرية، خمسة فصول، الأول عنوانه “في أدب الرحلات الإماراتي المعاصر… مقابلة بين منهج الكتَّاب ومنهج الكاتبات”، ويدور حول مؤلفات للأدباء محمد المر “حول العالم في 22 يوما”، ووديان سمحان “جواز سفر مستعمل جدا”، ومريم البلوشي وكتابها “سفر الذاكرة”، وحاول بوشعير أن يفرق من خلال دراستها بين أدب الرحلات الذكوري وأدب الرحلات النسوية مع رصد ملامح كل منهما والخصائص التي تميزه عن الأخر.
وذكر الناقد الجزائري أن انتشار وسائط الاتصال الحديثة أدى لانحسار أدب الرحلات في الآداب العالمية؛ لأنها تقدم كل المشاهد الطبيعية والاجتماعية والعمرانية وتنوعات الأحياء والآثار والمعالم الحضارية بالصوت والصورة في أي بقعة من بقاع العالم، ما يعني أن أي كتابات سردية عن تلك المشاهدات تظل قاصرة، ومع ذلك فإن أدب الرحلات ما زال يقاوم ولم تتوقف إبداعاته.
ولفت بوشعير إلى أنه رغم كون أدب الرحلة يكاد يكون حكرا على الرجال، إلا أن المرأة أصبحت، حديثا، تسهم في إثرائه، وذلك لا يحتاج إلى تعليل؛ أما في العصور القديمة فلم تكن تستطيع قطع المسافات الطويلة عبر الأدغال والصحاري والبحار والأودية والجبال والمدن النائية كي تكتب عنها، ولكن في العصر الراهن توفرت سبل المواصلات السريعة والمتطلبات الأمنية والاقتصادية والثقافية الضرورية، لذا أخذت كثير من المبدعات وبينهن الإماراتيات يسهمن في كتابة أدب الرحلات عالميا، وتقديم كتابات بارزة فيه.
وذكر بوشعير أن ملامح النسوية في الرحلتين الأخيرتين ل”وديان النعيمي” و”مريم البلوشي” تتراءى في النزوع الذاتي، والحديث عن أمور ذات طابع خاص، ومصاقبة فنون أدبية أخرى، وخاصة المذكرات والسيرة الذاتية، والمقالة، وهي الأكثر تعبيراً عن الذات، بعد الشعر، وقد انحرف ذلك بأدب الرحلة عن وظائفه الاستكشافية الموضوعية التي حققتها رحلة الأديب محمد المر إلى حد ما، ويعكس تباينا جوهريا بين أدب الرحلة الذكوري وأدب الرحلة النسوي في المشهد الأدبي الإماراتي المعاصر.
رواية الفكرة وتوظيف الحكاية
في الفصل الثاني “الحكاية الشعبية في الرواية الإماراتية… رواية “أم الدويس” لعلي أبو الريش أنموذجاً”، يشير بو شعير إلى أنها ليست رواية فعل، بل رواية فكرة وتحليل سيكولوجي، وبذخ لغوي وأسلوبي، لذلك يصعب تلخيص أحداثها، ورغم تعدد الشخصيات فيها، يظل بطلها “فيروز” الضليع بعلم النفس والتفكير الفلسفي محورها الذي تدور حوله كل الشخوص والمواقف والأحداث، حيث يمسك بزمام السرد وفعل القص ويهيمن على الرؤية الفكرية النصية، ولكن هذه الهيمنة لم تكن كافية لحبك فعل بنائي متماسك.
والبطولة هنا ليست بطولة إيجابية تتعلق بإنجاز فعل اجتماعي أو حضاري أو وطني أو قومي مميز، بقدر ما هي بطولة ذهنية سيكولوجية؛ ذلك أن فيروز في هذه الرواية يقتصر على خروجه من جزيرته المعزولة، وينشئ علاقات تستهدف فقط البحث عن منشأ الخرافة أو الأسطورة وتناقضها مع العلم في الباطن السيكولوجي، وفي الواقع الموضوعي الاجتماعي، سواء بسواء، وذلك من خلال توظيف حكاية أم الدويس الرائجة في الأدب الشعبي الإماراتي.
ولكن هذه الحكاية، كما يرويها الشيخ ضاوي بالرواية، لا تقتصر على التراث السردي الشفوي الإماراتي، وإنما تعود بجذورها إلى التراث السردي الإنساني العالمي؛ فهي امرأة جبارة، ماكرة، مخادعة، ذكية وعدوانية؛ شرسة، لم تتخصص في إرهاب الأطفال كما هو شائع، بل كانت يدها العملاقة تمتد لتطال الرجال والنساء.
ولا يكتفي علي أبو الريش، حسب رأي بوشعير، بتوظيف الحكاية الشعبية كما تروى في السرديات الإماراتية، ولكنه يعيد صياغتها فيخضعها لخياله المبدع ويربطها بالتراث السردي الإنساني، ويغير معالمها الفولكلورية، حيث يهدف للتعبير عن الصراع بين العلم والخرافة سيكولوجيا واجتماعياً، وهذا ليس جديداً في أعمال أبو الريش؛ فقد سبق له أن طرحه على استحياء في أعمال روائية أخرى، وخاصة في “نافذة الجنون” و”تل الصنم” من خلال الصراع بين شخصية الأم التي تحاول أن تحاصر ابنها بطقوس أسطورية خرافية تزرع الخوف في وجدانه، وشخصية الإبن الذي يتطلع إلى الانعتاق والتحرر والتفكير العلمي المنطقي.
استخدام المعرفة في الرواية
وفي الفصل الثالث “الرؤية المعرفية في السرديات الأدبية ..رواية “قميص سارة” لعلي أبي الريش نموذجا” سعى بوشعير للوقوف عند استخدامات المعرفة السيكلوجية في الرواية الإماراتية، وذلك من خلال تقصيها في أعمال على أبو الريش، ولفت إلى أنها تطغى على كثير من أعماله؛ فهي تطالعنا بقوة في ثنائية “مجبل بن شهوان” و”نافذة الجنون”، و”ثلاثية الحب والماء والتراب”، و”تل الصنم”، و”أم الدويس”، وهي أعمال يسيطر على أحداثها أبطال سلبيون يعانون من اضطرابات سيكولوجية، مثل الحصر، وعقدة الاضطهاد، وعقدة الخصاء، والهلوسة، والسادية، وتعد رواية “قميص سارة” امتداداً لتلك الأعمال، وتركز على عقدة سيكولوجية وهي عقدة أوديب التي تحكم سلوك “آدم” الفتى البكر لسلمان المتسلط الفظ، وسارة زوجته الرقيقة المطيعة، وخلال الأحداث الروائية لا يترك أبو الريش بطله فريسة لهواجسه وآلامه تفتك به، بل تظهر شخصية عبدالحميد المرشد الاجتماعي الذي يكتشف بذرة التفوق والموهبة الفطرية في أعماق آدم، ويراهن على تنميتها ورعايتها حتى تثمر مبدعاً تشكيلياً يحظى باحترام المدرسين والرسامين وينال الجوائز التقديرية.
وذكر بوشعير أن علي أبو الريش في روايته “قميص سارة” يلتزم بحدود النظرية الفرويدية في تفسير الإبداع الفني، ويجعل منها عملاً تطبيقياً لنظرية فرويد، وقد كان للمعرفة السيكولوجية أثر جمالي عميق في بناء الرواية ورسم شخصياتها وطبيعة الرموز فيها.
الاهتمام بالمكان والحنين إلى الماضي
يركز الناقد الجزائري في الفصل الرابع “إيقاع الحيز في رواية “نداء الأماكن/ خزينة” للكاتبة مريم الغفلي على دراسة أثر المكان أو الحيز بوصفه العنصر الأهم في بناء الرواية، والمقصود بالحيز هنا ليس الفضاء العمراني أو الفضاء الطبيعي من جبال وسهول ووديان وكثبان وأشجار، حسب، ولكنه الأشياء والمقتنيات والملابس والصناديق واللوحات الزيتية، وما إلى ذلك، حيث يتجلى الاحتفال بالحيز في هذه الرواية منذ عتبة العنوان، ويشكل حضوراً قوياً في عالمها؛ فعلى امتداد تسعة عشر فصلاً تستحضر الكاتبة الحيز التاريخي وما طرأ عليه من تغيرات على إثر اكتشاف النفط واستثماره بالإمارات المتحدة، وخاصة بإمارة أبوظبي.
ويشير بوشعير إلى إن مريم الغفيلي تبدو خلال أحداث روايتها مسكونة بالحيز، لا تكتفي باستحضاره في سياق السرد، وإنما تؤنسنه وتضفي عليه مسحة أسطورية؛ حيث تتوق شخوص “نداء الأماكن”، إلى الفضاءات الجغرافية والمعمارية القديمة لكونها مرتعاً لتجاربها الإنسانية المترسبة في الذاكرة الجماعية التي تغدو مصدر إثراء للتعبير الأدبي منذ العصر الجاهلي حتى الآن، فمريم الغفلي لم تصف فضاءات معيشيق والعين بغرض الوصف، وإنما بغرض التعبير عن الحنين إلى الماضي الذي تعرض جوهره لرياح التغيير السريع، فاقتلع المتشبثين به من جذورهم.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي