إبداعات عربيةعاجل

“مدار العنف” رواية موريشيوسية تفضح عالم الجريمة في جزيرة فرنسية

 

أحمد عبد الحافظ

في إطار عالم موحش موبوء، يتفشى فيه العنف وتجارة المخدرات وانعدام الأمن، والجرائم المنظمة، تدور أحداث رواية “مدار العنف” تأليف الكاتبة الموريشيوسية نتاشا اباناه ذات الأصول الهندية، وعلى امتداد 23 مقطعا قصصيا تتبع الكاتبة ما تتعرض له بطلة روايتها “ماري” وطفلها بالتبني، “مواز” وما يمران به من أزمات ومآسي بسبب ضعفهما وانفتاحهما على محبة الإنسانية دون تقدير لأي اعتبارات يمكن أن تقع في المستقبل، ودون أن يتحسبا شيئا لما يحيط بهما من وحشية وخواء روحي وضياع يكتنف كل شئ ولا ينجو منه حتى الحيوانات، تتسارع الأحداث وتتصاعد وتغذيها تدخلات كل شخصية من شخصيات الرواية، كل منها بصوتها الخاص وبوجهة نظرها، لتضيف لبنة في بناء عالم عبثي وبلا قلب نما تحت أعين الجميع فرنسيين ومهاجرين غير شرعيين.
تتعرض الرواية، التي صدرت حديثا ضمن مطبوعات هيئة الكتاب المصرية بترجمة الكاتبة المصرية أسماء مصطفى كمال، لحياة الممرضة الفرنسية “ماري” التي تعمل في إحدى مستشفيات “مامودزو” أكبر مدن جزيرة “مايوت” الواقعة جنوب شرق أفريقيا حيث انتقلت لتعيش وتحظى بسعادة كانت تتمناها بصحبة زوجها الممرض الذي تعود أصوله إلى إحدى عائلات الجزيرة، لكن سعادتها لم تدم طويلا فما لبث أن انفصل عنها لأنها فشلت في الإنجاب، لتبدأ المرأة رحلة حياة قاسية في جزيرة تنتمي للدولة الفرنسية بالاسم فقط ولا تعرف شيئا من نظامها ولا رفاهية ناسها الذين يسكنون على أراضيها.

الكاتبة الموريشيوسية نتاشا اباناه
الكاتبة الموريشيوسية نتاشا اباناه

منذ بداية الرواية تقطر الكاتبة قصة بطلتها “ماري” للقراء، ونراها تضيف للأحداث مع كل شخصية من شخصيات القصة تطلع وتتحدث عن علاقتها بـ “مايوت” وما يدور فيها، فنحن أمام امرأة لا تهنأ بحياة ولا تستمر في طريق دون منغصات، تحب وتتزوج على عجل ثم ينفصل عنها زوجها ويتركها لأخرى، وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها بسبب فشلها في انجاب طفل، وحين يكتشف الرجل أن علاقته بامرأته الثانية سوف تسفر عن مولود يسعى للطلاق من “ماري”، لكنها لا توافق على الانفصال إلا بعد أن تجبره على توقيع أوراق تتيح لها أن تتبني طفلا تركته سيدة في مشفاها وهربت، أما عن ابنها بالتبني، والذي منحته اسم “مواز” فنراه يتمرد عليها بعد أن تحكي له قصته الحقيقية، يتركها تموت مصابة بنفجار في المخ بعد أن سقطت في صحن المنزل، لا يهتم باسعافها للحظة، بل يقوم بصحبة عصابة من الأطفال بسرقة نقودها وبطاقتها البنكية الخاصة بها، ثم تتطور الأحداث ويدخل الطفل في صراع مع زعيم العصابة ويضطر لقتله حتى يتخلص من انتهاكاته وإهاناته الدائمة له.

تاريخ الشخصيات

تتبع الكاتبة التاريخ الخاص لكل شخصية من شخصيات الرواية، تبسطه أمام الجميع، سواء من خلال حديث كل شخصية عن نفسها أو من خلال حديث الأخرين عنها، وتتجمع الخيوط، وتتطور الأحداث خطوة بخطوة وتتصاعد باستمرار البوح، ومع حديث كل شخصية تتضفر التفاصيل في نسيج الرواية ليتضح في نهايتها كيف يتحول طفل في عالم عشوائي إلى قاتل يسعى للنجاة بنفسه لكن دون جدوى.
ولا تقدم المؤلفة أحداث العنف وشخصيات روايتها الخارجين على القانون والنظام، منفصلين عن جغرافيا المكان وتفاصيله، لكنها تطبع الواقع بعفونته وضحالته على الشخصيات، وهي تتجول بين عشش الصفيح، وأشجار الباوباب، والبحيرات، والعبَّارات التي تحمل المهاجرين غير الشرعيين، تكشف عوالم المرضي في مستشفيات مايوت والمشوهين وعصابات الأطفال في المناطق العشوائية بملابسهم المتسخة وسيقانهم وأصابعهم المبتورة.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يمكن التعرف على انطباعات الشخصيات بما فيهم البطلة “ماري”، عن الأماكن والأشياء والبشر، والتي تتشكل عبر حالتها النفسية، ومشاعرها الذاتية، وتنفذ من خلالها إلى روح الأشياء، تحبها إذا كانت في حالة استقرار وتراها مثل جنة بلا شرور، تقول ماري وهي تحكي عن مشاعرها عن مسقط رأس زوجها قبل أن تنتقل إليه، “كان لديَّ انطباع أن “شام”، قد عاش في جزيرة أطفال، خضراء وخصبة، يلعبون من الصباح حتى المساء، والعمات وبنات العم والأخوات هن أيضا أمهات عطوفات. وصرت أفكر في هذا البلد، كلما أستيقظ صباحا، في تلك المدينة الصاخبة”.
وكانت ماري عندما تنتهي من عملها في مركز المشفى الإقليمي ببلدة “باسامانتي”، على بعد بضعة كيلومترات من العاصمة الموزمبيقية “مامودزو”. تمشي ببطء، وخفة، تنزل التل، وهي تعلم أن فتاة صغيرة تنتظرها. قدماها تكتسي بالغبار، ويداها غليظة مثل أقدام وأيدي العمال، شعرها قذر ورمادي. تنتظرها على الطريق مبتسمة وكانت ماري تأخذ ما تجده في الكافيتريا سواء كان علبة بسكويت، أو برتقالة أو تفاحة. وتعطيه لها، كانت هناك علاقة غريبة بينها وبين الطفلة، وهكذا كان لدي ماري شغف كبير بالجزيرة، حين كانت على وفاق مع زوجها، وقد تبدل كل ذلك بعد غدره بها.

بناء الأحداث

تعتمد الكاتبة في بناء الأحداث تكنيك تتعدد الأصوات، وتحكي كل شخصية بلسانها ما يخصها من وقائع، حتى الموتي، تستحضرهم المؤلفة ليلقوا بشهادتهم على الاحداث، وعلى ما رأوه بأم أعينهم، ربما تجعل الكلمات أحباءهم يبصرون النور عبر ما يرزحون فيه من أزمات، يمكن ملاحظة ذلك من تعليقات ماري وهي تتحدث كميتة من عالمها البعيد إلى ابنها بالتبني “مواز” وهي تحاول أن تشجعه على تجاوز محنة السجن، تقول “أقترب منه وأهمس في أذنه، أخبره كم أحبه، كم هو شجاع، وكم أنا متأسفة لتركي له. أقول لنفسي إن كلماتي كميتة يمكن أن تختلط بأوهام أحلامه، وأنه حينما سيستيقظ فعليا، فيما بعد، ربما يستطيع تذكرها”.
وبعد ماري، يأتي دور زعيم العصابة إسماعيل سعيد “بروس”، المقتول بيد مواز، يحكي أنه كان يعاني من صعوبات في التعلم، ولم يسمح له بدخول المدرسة الإعدادية، قال المدير لوالده إن ابنك سوف يكون أفضل عندما يلتحق بمدرسة الأطفال المعاقين، لكن الطفل لم يذهب إلى المدرسة ولم يكمل تعليمه، وسار في طريق لا رجعة منه، بدأه بسرقة النقود من حقيبة أخته، ثم ساعة أبيه، ثم راح يدمن المخدرات، والخمرة, وصار زعيما لمخيم “كاوني” العشوائي بعد أن كون عصابة من المراهقين، ثم في النهاية يتصادم مع “مواز” ويلقى مصيره بمسدس مسروق.
وهكذا تتبع “اباناه” مؤلفة الرواية حياة أبطالها في أفراحهم وأحزانهم وطموحاتهم التي لا تكتمل، وأحلامهم التي تتكسر على صخور الجزيرة الصلبة، وبلغة تسيطر عليها حالة من البوح الهامس تتحدث، ولا يبقى في ذاكرتها سوى حواف الأشياء، وضجيج أمور تقض مضاجعها بين رغبتها في العيش الكريم وواقع عشوائي ينتهك انسانيتها ويدخلها في حالة مستمرة من الضياع.

نبذة عن الكاتبة 

ولدت الكاتبة ناتاشا أباناه في 24 مايو 1973 بمدينة “ماهيبورج” في جزر موريشيوس لمهاجرين من الهنود، وقضت السنوات الخمس الأولى من طفولتها في شمال الجزيرة، في مدينة بيتون، بدأت مسيرتها بكتابة بعض المقالات الأدبية في موريشيوس، ثم انتقلت إلى فرنسا في نهاية عام 1998، وعاشت في “جرونوبل”، ثم في “ليون”، حيث أنهت تدريبها في مجال الصحافة والنشر.
نشرت عددا من الروايات الأولى “صخور مسحوق الذهب”، وحصلت على جائزة “RFO” لعام 2008، أما الثانية فكانت “بلو باي بالاس” وقد حصلت بروايتها “الأخ الأخير”، على جائزة Fnac لعام 2007 وجائزة القراء، التي تمنحها “لاكسبريس”، لعام 2008، وتعتبر روايتها “مدار العنف” التي نُشرت في عام 2016 الكتاب السابع في مسيرتها الابداعية.

 

 

لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي

زر الذهاب إلى الأعلى