من الغرب إلى الشرق.. إعادة تشكيل التحالفات العربية مع الصين وروسيا
تقرير: علي الجابري
في عصر يشهد تغييرات جذرية في الديناميات الجيوسياسية العالمية، تنخرط دول الخليج والدول العربية في تحول استراتيجي ملحوظ يعكس رغبتها في تنويع تحالفاتها وتعزيز شراكاتها مع القوى الصاعدة، فبعد عقود من الاعتماد الكبير على الولايات المتحدة وأوروبا في المجالات الاقتصادية والأمنية، نرى الآن تحولًا ملحوظًا نحو الشرق، مع تركيز متزايد على بناء علاقات قوية مع الصين وروسيا والهند.
ويمثل هذا التحول تجسيدًا لرؤية جديدة تهدف إلى تحقيق توازن استراتيجي يتماشى مع مصالح الدول العربية في عالم متعدد الأقطاب. ففي وقت تتزايد فيه التحديات والتوترات في العلاقات مع القوى الغربية، تبرز الصين وروسيا كأعضاء رئيسيين في تحالفات جديدة تسعى دول الخليج إلى استكشافها وتعزيزها.
تشمل هذه الشراكات المجالات الاقتصادية، من خلال مشاريع البنية التحتية الكبرى، إلى التعاون التكنولوجي والأمني، حيث تسعى الدول العربية إلى تأمين تقنيات حديثة وحلول دفاعية متطورة.
يأتي هذا التحول في سياق أوسع من إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي، حيث تتطلع الدول العربية إلى تعزيز نفوذها على الساحة الدولية وضمان استقرارها الاقتصادي والأمني من خلال تنويع مصادر تعاونها.
وانطلاقًا مما سبق، نستعرض في السطور الآتية جوانب هذا التحول، مع تسليط الضوء على الاستراتيجيات الجديدة التي تتبناها دول الخليج والدول العربية، والعوامل التي تدفعها نحو هذا التوجه الشرقي، والتأثيرات المحتملة على الديناميات الإقليمية والدولية.
التحول نحو الشرق:
في السنوات الأخيرة، شهدت السياسة الخارجية لدول الخليج تحولًا كبيرًا نحو الشرق، مع التركيز بشكل متزايد على تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا والقوى الصاعدة الأخرى، وهو ما يمكن الإشارة إليه في التالي:
1. توسع العلاقات الاقتصادية:
تسعى الصين إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج عبر مشاريع مبادرة الحزام والطريق، التي تهدف إلى تطوير البنية التحتية وتعزيز الروابط التجارية.
قامت الصين بتصدير التكنولوجيا الدفاعية إلى دول الخليج مثل السعودية، التي حصلت على دعم صيني في تطوير صواريخ بالستية بعد رفض الولايات المتحدة تزويدها بهذه التكنولوجيا. وبالإضافة إلى ذلك، يعزز التعاون بين الإمارات والصين في مجال التكنولوجيا، بما في ذلك الشبكات الاتصالية من الجيل الخامس، رغم الضغوط الأمريكية لإقصاء الشركات الصينية.
2. تنويع الشراكات الأمنية:
مع تزايد التحديات في العلاقات مع الولايات المتحدة، تسعى دول الخليج إلى تنويع شراكاتها الأمنية، ما يتضمن البحث عن شراكات مع الصين وروسيا لتأمين الأسلحة والتكنولوجيا الدفاعية. تعكس هذه الاستراتيجية رغبة دول الخليج في تحقيق توازن استراتيجي وضمان استمرارية استثماراتها وتكنولوجياتها بعيدًا عن الاعتماد الكامل على القوى الغربية.
3. ردود فعل تجاه الضغوط الغربية:
استجابة للضغوط الغربية، مثل ضغوط الولايات المتحدة على الإمارات لتقليص التعاون مع الصين، قامت الإمارات بتجميد صفقات مع شركات أمريكية واستبدالها بخيارات أخرى مثل الطائرات الفرنسية. هذه الخطوة توضح رغبة الإمارات في إثبات استقلاليتها ووجود خيارات بديلة في المشتريات الدفاعية.
المصالح المشتركة وتغير الديناميات الإقليمية:
1. الأمن والطاقة:
تتمثل المصالح المشتركة بين دول الخليج والصين وروسيا والهند في تأمين إمدادات الطاقة وتعزيز الاستقرار الأمني. الصين وروسيا مهتمتان بضمان وصول الطاقة من الخليج، بينما تسعى دول الخليج لتأمين استثمارات وتكنولوجيا متقدمة.
2. التنمية الاقتصادية:
تسعى الدول الخليجية إلى تنويع اقتصاداتها عبر التعاون مع الصين والهند في مشاريع تنموية وتكنولوجية، بما يتماشى مع استراتيجيات التنمية الاقتصادية التي تنفذها هذه الدول.
3. التوازن الاستراتيجي:
تسعى دول الخليج إلى تحقيق توازن استراتيجي من خلال تعزيز علاقاتها مع قوى عالمية متعددة مثل الصين وروسيا والهند، لموازنة تأثير القوى الغربية وضمان مصالحها الاقتصادية والأمنية.
السعودية وروسيا:
في تطور دبلوماسي بارز، كشف تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ مؤخرًا عن تحذير سعودي وجهته المملكة العربية السعودية إلى دول مجموعة السبع بشأن الأصول الروسية المجمدة، والتي تُقدّر بنحو 300 مليار دولار. ويمكن تلخيص التقرير في النقاط التالية:
• هددت السعودية ببيع ديونها في المجموعة إذا تم الاستيلاء على الأصول الروسية المجمدة نتيجة للعقوبات المفروضة بعد الحرب على أوكرانيا.
• أكدت السعودية رفضها للإجراء الغربي الذي رأت أنه يهدف إلى دعم أوكرانيا، ووصفتها بأنه “تهديد مستتر”.
• ذكر السعوديون على وجه التحديد الديون الصادرة عن الخزانة الفرنسية كجزء من تحذيرهم لمجموعة السبع، مما عكس تعقيد العلاقات الاقتصادية بين السعودية ودول المجموعة.
• سلط التقرير الضوء على العلاقات المتنامية بين السعودية وروسيا من ناحية، وعلى نفوذ المملكة المتزايد على الساحة الدولية من ناحية أخرى.
• يدل التقرير على قدرة السعودية على التأثير على السياسات الاقتصادية الكبرى من خلال تهديدات استراتيجية تتعلق بالاستثمارات والديون.
الإمارت والصين:
• أثارت العلاقة بين الإمارات العربية المتحدة والصين قلقاً في واشنطن، التي دعت الإمارات إلى إقصاء شركة تكنولوجيا المعلومات هواوي من شبكتها للاتصالات من الجيل الخامس وتقليل التعاون الدفاعي مع الصين. وهو ما يمكن الإشارة إليه في النقاط التالي:
• القلق الأمريكي: الولايات المتحدة تخشى من أن تستغل الصين علاقتها مع الإمارات للحصول على تقنيات حساسة، بما في ذلك تقنيات الطائرات المقاتلة.
• قانون مراقبة التعاون: طرح الكونغرس الأمريكي “قانون مراقبة التعاون بين الصين والإمارات العربية المتحدة” للرقابة على علاقات الإمارات مع الصين، في محاولة للحد من تأثيرها التقني والعسكري.
• تجميد صفقة أف-35: ردّت الإمارات بتجميد صفقة شراء مقاتلات أف-35 الأمريكية، وأبدلتها بمقاتلات رافال فرنسية الصنع، لتوضيح أنها لن تخضع للضغوط الأمريكية بشأن علاقاتها مع الصين ولديها خيارات بديلة في المشتريات الدفاعية.
• العلاقة مع الصين: تعكس التحديات في العلاقات مع الولايات المتحدة دينامية تصب في مصلحة الصين، التي تتمتع بقدرة على الحفاظ على استمرارية القيادة والسياسات، حتى في ظل تغييرات الإدارة الأمريكية، مما يجعلها شريكاً موثوقاً وطويل الأمد في الخليج.
تحول عربي متنامي نحو الشرق:
لم تتوقف سياسة التخلي عن أمريكا والغرب، والاتجاه شرقًا نحو عالم متعدد القطبي على دول الخليج فقط، فقد شهدت الساحة الدولية، خلال العقد الماضي، تحولًا ملحوظًا في توجهات السياسة الخارجية للدول العربية؛ فبينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب تقليديًا تحتلان مركز الصدارة في العلاقات الخارجية العربية، نلاحظ اتجاهًا متزايدًا نحو الشرق، مع التركيز بشكل خاص على تعزيز العلاقات مع الصين والقوى الصاعدة الأخرى مثل الهند وروسيا.
يُعزى هذا التحول إلى جملة من العوامل، تشمل:
• السعي لموازنة العلاقات الخارجية: تسعى الدول العربية إلى تنويع شركائها الدوليين، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، التي يُنظر إليها أحيانًا على أنها لا تعطي الأولوية الكافية للمصالح العربية.
• البحث عن فرص اقتصادية جديدة: تُقدم الدول الآسيوية، خاصة الصين، فرصًا اقتصادية هائلة للدول العربية، من خلال الاستثمارات والتجارة وبرامج التنمية.
• تطلعات سياسية جديدة: تسعى الدول العربية إلى لعب دور أكثر فاعلية في النظام الدولي، وتعتقد أن التعاون مع القوى الصاعدة يوفر لها منصة أقوى لتحقيق أهدافها.
وقد كان لهذه التحولات في السياسة الخارجية العربية تأثير كبير على ديناميكيات الشرق الأوسط، ونذكر من ذلك:
• تعميق الشراكات الاستراتيجية مع الصين: أصبحت الصين شريكًا تجاريًا واستثماريًا رئيسيًا للدول العربية، كما تتزايد التعاونات في مجالات أخرى مثل الأمن والطاقة والتكنولوجيا. وقد أدى ذلك إلى تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، حيث أصبحت الصين لاعبًا رئيسيًا في القضايا الإقليمية.
• إعادة تشكيل الشراكات الإقليمية: تُعيد الدول العربية تقييم علاقاتها مع القوى الإقليمية الأخرى، مثل إيران وتركيا، في ضوء تحالفاتها الجديدة مع الشرق.
• ظهور تكتلات إقليمية جديدة: قد تُساهم التحولات في السياسة الخارجية العربية في ظهور تكتلات إقليمية جديدة، تربط الدول العربية بالقوى الصاعدة في آسيا.
في ضوء هذه التحولات، يتضح أن دول الخليج والدول العربية تسعى بفعالية نحو شرق أكثر تنوعًا وثراءً في الشراكات الاستراتيجية.
التحول نحو الصين وروسيا والهند يعكس محاولة لتقليل الاعتماد على القوى الغربية وتعزيز الاستقلالية في السياسة الخارجية. هذا التوجه الجديد يتيح للدول العربية استكشاف فرص اقتصادية واستثمارية متزايدة، وتوسيع نطاق التعاون في مجالات متعددة تشمل الأمن والطاقة والتكنولوجيا.
وتجسد هذه التحولات في السياسة الخارجية رغبة الدول العربية في أن تلعب دورًا أكثر فاعلية في النظام الدولي، مع تحقيق التوازن الاستراتيجي الذي يعزز من قدرتها على التأثير في القضايا الإقليمية والدولية. وفي الوقت نفسه، تعكس هذه الديناميات الجديدة تطورًا في العلاقات الدولية قد يؤدي إلى ظهور تكتلات إقليمية جديدة وتشكيل تحالفات تتجاوز النطاق التقليدي للعلاقات الغربية.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي