إبداعات عربيةعاجل

كتاب “الوباء الذي قتل 180 ألف مصري”… وثائق بريطانية وصحف مصرية رصدت تفشيه وأغفله المؤرخون

 

أحمد عبد الحافظ

منذ ما يقرب من مائة عام تقريبًا اجتاح العالم وباء حصد أرواح ملايين البشر في العالم، البعض يقول أن عدد ضحاياه كانوا عشرين مليون شخص، وذهب أخرون إلى أن الذين حصد الوباء أرواحهم تعدوا ذلك الرقم بكثير، وربما وصلوا إلى خمسين مليون إنسان، توفوا جميعًا متأثرين بالتهاب رئوي، وكان بينهم ربع مليون بريطاني، وعشرة مليون هندي، أما دول وسط أفريقيا فكان من نصيبها مليوني قتيل، ولم تكن مصر بعيدة عن ذلك الوباء، فقد قدمت أكثر من مائة وثمانين من أبنائها ضحايا لانتشاره في أراضيها، وقد كان اللافت للنظر أن معظم الوفيات من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين عشرين إلى أربعين عاما، وهو ما يخالف وباء كورونا الذي يجتاح العالم حاليا، ويصيب كبار السن.
كتاب الدكتور محمد أبو الغار الذي بعنوان “الوباء الذي قتل 180 مصري” عن دار الشروق المصرية، يرصد تفاصيل ذلك الوباء، وما جرى منذ مائة عام أثناء انتشار الفيروس الذي عرفه العالم باسم الانفلونزا الإسباني، رغم أنه لم يظهر في أسبانيا أولا، وأغلب الظن كان ظهوره في الصين، أو في أمريكا في كانساس سيتي.

الدكتور محمد أبو الغار
الدكتور محمد أبو الغار

يتكون الكتاب من سبعة فصول غطت العديد من الجوانب حول تطور النظام الصحي في مصر لحصار الأوبئة ومحاربتها، وتدهور الوضع الصحي والاقتصادي زمن انتشار الانفلونزا الاسبانية واندلاع الثورة بقيادة سعد زغلول ورفاقه، كما تابع المؤلف تغطيات أحداث الانفلونزا الأسبانية في الصحف المصرية، وخلاله يعقد أبو الغار مقارنة بين فيروس الانفلونزا الأسبانية وما حدث من إجراءات عالمية اثناء انتشاره، وبين ما يحدث حاليا في ظل انتشار فيروس كورونا، كما يبحث الآثار الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية التي صاحبت تفشيه، وما أدى إليه من تغييرات على المستوى الدولي والمحلي، وقد كان من نتائج انتشاره في مصر، اندلاع أحداث ثورة 1919، ومطالبة المصريين بالاستقلال, وخروج المحتل البريطاني من أراضيهم.

وثائق انجليزية رصدت انتشاره في مصر

اعتمد أبو الغار في تأليف كتابه على مجموعة وثائق ومستندات مكتوبة باللغة الانجليزية، حصل عليها من جامعة تكساس الأمريكية، عن طريق الدكتور كريستوفر روز الباحث في قسم التاريخ، وتغطي الوثائق الحالة الصحية في مصر بشكل كامل ومفصل بداية من عام 1914، وحتى 1927، كما استفاد من نسخة التقرير العام الذي قدمه الدكتور ويلسون إلى لورد ملنر وزير المستعمرات البريطانية، الذي حضر إلى مصر، وأقام بها عدة شهور للتحقيق في أسباب ثورة 19، ومعرفة الأخطاء التي وقع فيها المحتل البريطاني، وأدت إلى اندلاعها. ولم يكتف الدكتور محمد أبو الغار بهذه الوثائق لكنه كان يحتاج أيضا لوثائق محلية تصف ما جرى، وراح يبحث طويلا، ولم يعثر على أي شئ يشير للوباء في كتابات مؤرخين مهمين مثل مصطفى صادق الرافعي، وأحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوي، ومدير عموم الأوقاف وقتها.
وفي ظل حرصه على الوصول لمعلومات محلية ترصد تفاصيل ما جرى في مصر، عثر المؤلف على بحث للدكتور كريستوفر روز يشير فيه إلى أن الوباء تسبب في أزهاق أوراح آلاف المصريين، كان بحثا صغيرا لكنه فتح الطريق أمامه ليؤكد حقيقة أغفلها المؤرخون، فيما أشار بعضهم إليها بجملة أو عبارة خاطفة، مثل الشيخ عبد الوهاب النجار ضمن مذكراته عن ثورة 19، التي صدرت بعنوان “الأيام الحمراء”، وشفيق باشا الذي كتب في حولياته السياسية “وقد ساءت الأحوال الصحية في البلاد، بانتشار حمى غريبة قاسية، أشبه بالوباء الفتاك، سميت بالحمى الأسبانية، وفتكت هذه الحمى بالعدد العديد من الناس”.

معلومات نادرة في كتب المؤرخين

إغفال المؤرخين الحديث عن وجود وباء الانفلونزا الاسبانية في مصر، أدى حسب المؤلف، إلى أن كثيرًا من دارسي التاريخ ظنوا أن المصريين لم يتعرضوا للانفلونزا الاسبانية أصلا، لكن أبو الغار استغل سطور متناثرة في كتابات المؤرخين، في فتح بوابة كبيرة من المعلومات عثر عليها في صحف الأهرام والمقطم المصريتين، وقد اكتشف أنهما تابعتا بكثافة موضوع الوباء، وأظهرتا مدى خطورته، وآثاره على حياة المصريين، وكشفتا ما أدى إليه انتشاره من أضرار اقتصادية، وبشرية، فضلا عن الأثار النفسية والعصبية العميقة التي لاحظها العلماء، وغيرت من التصرفات الإنسانية.
وأشار أبو الغار إلى أن دول العالم عانت كثيرا من أثار ممتدة بعد انتهاء وانحسار الفيروس الاسباني، لكن حدة تلك الاثار زادت في الدول التي لم يكن لديها رقابة على الصحف، والتي راحت تتابع أخبار الوباء وترصد مناطق انتشاره، وامتدت تلك الأثار إلى الأطفال الذين ولدوا في تلك الأيام، وصارت قدراتهم في التعلم والفهم محدودة، فضلا عن اعتلال صحتهم الجسمانية.
وفي الكتاب يشير المؤلف إلى كيفية تعامل العالم مع وباء الانفلونزا الأسبانية، ويعقد مقارنة بين ما جرى منذ مائة عام، وبين ما يقوم به المسؤولون في مختلف أنحاء العالم، وهم يديرون عمليات محاصرة فيروس كورونا الحالي، وذكر أنهم استفادوا من التعامل معه باللجوء إلى عزل المصابين، وتنفيذ العديد من الاجراءات الاحترازية، كما كان يحدث عندما هاجم العالم فيروس الانفلونزا الاسبانية.

مشاهير الضحايا

تسببت الانفلونزا الأسبانية في وفاة سير مارك سايكس المستشار السياسي والدبلوماسي البريطاني والذي كان مختصًا بشؤون الشرق الأوسط خلال فترة الحرب العالمية الأولى، ووقّع عام 1916 على اتفاقية سايكس-بيكو عن بريطانيا مع بيكو ، والرسام النمساوي الشهير جوستاف كليمت ومواطنه إيجون شيلي، والأمريكي جون دودج مؤسس مصانع دودج للسيارات، والاقتصادي العالمي ماكس ويبر، والكاتبة المصرية ملك حفني ناصف، والأمير أحمد عبد القادر نجل الخديو عباس حلمي الثاني، والسياسي لبيب عبد النور الذي قام بدور كبير في جمع التوقيعات لسعد زغلول ابنان ثورة 1919، أما عن المصابين والذين تم شفاؤهم، فقد كان أحدهم الرئيس الأمريكي ولسون، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، وروزفلت الرئيس الأمريكي فيما بعد، وكان وقت إصابته نائبا لوزير البحرية.
كانت حالات الوفاء جراء الانفلونزا الاسبانية تحدث سريعا، بعد ظهور الأعراض بيومين، حتى أن البعض ظن أن هذا يحدث نتيجة لحرب كيماوية، أو بيلوجية، حيث تزامن ظهوره مع أحداث الحرب العالمية الأولى، لكن الحقيقة أن المسؤول عن حصد أرواح كل هؤلاء الضحايا كان فيروس الإنفلونزا الأسبانية الذي كان الصحفيين الأسبان أول من تحدثوا عنه، وظل جاثما على صدر البشرية مدة عامين، ثم بدا يتوارى تدريجيا إلى انتهى تماما بعد عامين من ظهوره، وقد تعدى عدد ضحاياه في مصر وحدها حوالي مائة وثمانين ألف نفس.
وقام أبو الغار بدراسة الوثائق التفصيلية والمعلومات المتوفرة في الصحف، كما عاد إلى الدراسات الاقتصادية التي ظهرت عن أحوال المصريين في فترة الحرب العالمية الأولى، وتابع حكاية تجنيد الفلاحين في الفيلق العمالي، وارتفاع الأسعار وقت المرض، وعلاقة ذلك بتدهور الصحة العامة لكثير من المصريين، وثورتهم قبل مائة عام.

دراسة آثار الوباء بعد انحساره

كما حاول أبو الغار من خلال تتبع ما عثر عليه من معلومات وثائقية، دراسة ما حدث بعد انتهاء الوباء، ولفت إلى أن ذكراه المؤلمة ظلت محفورة في ذهن البشر لسنوات طويلة، وظل العلماء يفكرون فيه، ويحاولون معرفة أسبابه، وطرق محاصرته حال ظهوره مرة أخرى في المستقبل، وكان من بين تلك الوثائق التي عثر عليها المؤلف دراسات علمية أوضحت كيف اكتشف العلماء بعد عشرات السنين فيروس الانفلونزا الأسبانية، ونوعه، وتركيبته، وكيف تمت دراسته. كما حاول المؤلف معرفة أسباب عودة الوباء بشدة مرة أخرى في 2020، ولماذا لم يستطع العلم الحديث تجنب كارثة حدوثه مرة أخرى، وذلك رغم وجود استعدادات كبرى، رأى المؤلف أنها لم تفعل وبالتالي لم يتوقف المرض.

 

 

لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي

زر الذهاب إلى الأعلى