كتاب “الروح بين الخيال والفلسفة والعلم” .. يبحث في تطوراتها وتشابكاتها وتحولاتها التاريخية
أحمد عبد الحافظ
يحاول المفكر النرويجي “أولي مارتن هويستاد” في كتاب “الروح بين الخيال والفلسفة والعلم” إلى رصد وتحليل التاريخٌ الثقافي الذي تُشكل فيه الروح جوهر تصور الإنسان عن نفسه عبر العصور، ويحلل الرؤى الفلسفية والدينية والثقافية المختلفة التي ساهمت بتأثيراتها وتفاعلها في تشكيل تصور معاصر للروح والنفس. الكتاب صدر عن دار الترجمان المصرية للنشر والترجمة، ويسعى المفكر النرويجي “هويستاد” من خلال مقدمة وثماني أقسام وخاتمة إلى التعريف بالروح والنفس في الثقافتين البوذية والإسلامية والعربية، كما يتتبع تطور المفهوم الخاص بهما في الثقافة الغربية الحديثة.
ويصف الكتاب، الذي قدم نسخته العربية المرتجم المصري أيمن شرف، تطورات الروح وتشابكاتها وتأثيرها وتأثرها وتحولاتها التاريخية، وكيف تم تفسيرها كمجاز ورمز، فضلا عن إعادة وصف الطريقة التي طبعت بها وجدان الإنسان وتركت بصماتها وراءها كتراث ومصدر إلهام لا يحُى، وبهذا المعنى فقد تم وصف الروح، وإجراء دراسات عنها، وتوضيح كيف استمر الفرد جزءاً من تاريخها، للوصول في النهاية إلى أن الإنسان كائن قابل للتشكل وللتغيير، وقد صاغ الفلاسفة على اختلافهم من أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة وحتى نيتشه وفيتجنشتاين في العصر الحديث مجموعة متنوعة من المفاهيم الروحية، وشكل الصراع بين التفسير الفلسفي والديني للروح فهم الإنسان في الثقافة الأوروبية حتى يومنا هذا.
ويُغطي الكتاب مساحة واسعة من تطور مفاهيم الروح في الثقافات الإنسانية المختلفة والأديان والفلسفات، ويعرض في إيجاز للتداخل والتأثير بين الحضارات القديمة والحديثة، وآراء العديد من المفكرين والفلاسفة وكبار الأدباء الذين أثروا وتأثروا بتلك المفاهيم، كما يتعرض المؤلف لتطور مفهوم الإنسان عن نفسه عبر العصور وذلك من خلال إجابات قدمها مفكرون وفلاسفة ومنظرون وأدباء وعلماء نفس ولاهوتيون وصوفيون ينتمون إلى ديانات مختلفة عن أسئلة تدور حول الروح وما إذا كانت مادة أم فكرة.. عقل أم شعور.. شكل أم مضمون.. فرضية أم واقع؟ وهل هي فردية خالصة أم أنها تتجاوز الفرد؟
يسعى “هويستاد” خلال فصول كتابه إلى البحث في أسباب ظهور أنماط الحياة البديلة في الغرب منذ حركة “قوة الزهرة” في الستينيات، وانتشار الرؤى الروحية القادمة من الشرق الأقصى سواء كانت مستمدة من الفلسفة البوذية أو اليوجا أو غيرها من المذاهب التأملية، وقال إن الرؤى العالمية البديلة مثل “العصر الجديد” وغيرها من الثقافات الفرعية في المجتمع المادي الحديث تمثل تعويضاً عن الضياع أو الطموح أو الاحتياجات الروحية غير المشبعة، وعلى هذه الخلفية أيضاً يمكن فهم دور مؤسسة “عشتارت” المعروفة باسم “مدرسة الملاك” التي ترعاها الأميرة النرويجية مارثا لويز والأشكال الحديثة من الروحانية، حيث تدور كثير من هذه الحركات حول الروح والقوى الروحية وتناسخ الأرواح وتجوالها وتجارب الخروج من الجسد، وهي موضوعات شائعة في الأدب الشعبي وأدب الخيال أيضاً، وتقدم أكثر الكتب مبيعًا مثل “هاري بوتر” أو “سيد الخواتم” مسرحاً رائعاً لعالم الروح وسحرها، بما يشير إلى أن الروح الغامضة لا تزال تلعب دورًا في وعي الإنسان، وتندرج ضمن احتياجاته، حيث يتعافي بشكل سري ما لم تحصل عليه الروح، من تأكيد علمي، في الحركات البديلة وفي الثقافة الشعبية والعالم الخيالي للأدب والسينما.
ويشير هويستاد إلى أنه سعى من خلال تحليلاته لإدراك معنى الروح في الثقافة الغربية بدرجة دقيقة، ولكي يتمكن من ذلك فقد حظيت النصوص الأساسية من العصور القديمة، وحتى الآن، بمكانةٍ مركزية في فصول الكتاب، حيث تبرز الفترات التاريخية المختلفة، سواء كانت قديمة أو وسطى أو حديثة، بأصوات شعرائها ومفكّريها فضلا عن الفلاسفة وعلماء النفس.
ولم يتوقف “هويستاد” عند هذا الحد بل راح يستعرض أيضا معنى الروح في الثقافتين البوذية والعربية، مشيرا إلى أنه لكي نفهم أنفسنا في عصر متعدد الثقافات يتعين علينا أن نفهم الآخرين أيضاً، ولفت إلى أن الحوار مع عمالقة الماضي مُهمة هائلة، وقد كان هدفه من ذلك تقديم عرض شامل متعلق بالروح كما تُفهم في الثقافة، يتضمن الأعمال الأدبية من منظور هذه الثقافة، فلم تكن نيته إعادة إنتاج تاريخ بعينه، بل سعى لاستنطاق المصادر التاريخية لكي يظهر ما تعنيه الروح في زمن بدت وكأنها من المحرمات في العالم الغربي.
وذكر المؤلف أن كثير من الناس يعتقدون أن لديهم روحا، لكن قليلين منهم يمكنهم أن يفسروا ماهيتها، ذلك لأنها تمثل شيئًا داخليًا وشخصيًا يصعب صياغته في كلمات، ولهذا سعى الفنانون بالصور والرموز للتعبير عنها وبالموسيقى لمعالجتها، مشيرا إلى أنه ليس من قبيل الصدفة نشوء ما يسمى ب”موسيقى الروح” لدى الأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي نتيجة يأسهم وإذلالهم، فقد كانت أرواحهم هي الشيء الوحيد الذي يملكونه، والذي يمكن استعباده حسب ما تشهد الأغاني التي غنوا فيها للأمل وللحرية.
ولفت “هويستاد” إلى أن التفاوت بين التعريف غير الواضح للروح وفهم معظم الناس لها ينعكس في اللغة، حيث يتم الحديث عن “أراوح طيبة وصالحة”، و”خلاص الروح” و”العمق الروحي”، فضلا عن الشعور “بشيء دفين في الروح”، والحديث عما يسمى “تلاقى الأرواح”، والخوف من “التعرض لأذى روحي”، وهناك تعبيرات تشير إلى سمات شخصية وأخلاقية، فيقال إن هناك “أرواحا قوية وأرواحا ضعيفة”.. و”أرواحا حرة وأرواحا منغلقة”، كما يتم النظر إلى “الروح باعتبارها مكمن الشخصية من حيث القوة والضعف”، ويقال أن “أرواح بعض الناس حساسة”، و”أرواح آخرين متقلبة”، ويجري الحديث عن أمراض جسدية وروحية، يطمح أصحابها إلى الخلاص منها وراحة البال.
وقال “إن الروح كانت، على مدى تاريخ البشرية، المنشورَ الزجاجيَ الذي يُنظر من خلاله إلى الإنسان وحياته ويتم تفسيرهما من خلاله”، ولعل مناشدة “سقراط” لمواطنيه الأثينيين بأن يعتنوا بأرواحهم ورسالة الخلاص المسيحية عن الحفاظ على الروح تعد هي الأسس الجوهرية في مفهوم الإنسان في الثقافة الغربية، حيث تُفهم الروح على أنها تعبير عن شخصية الفرد وذاته وكل ما يتعلق به من أفكاره أو كلماته أو أفعاله، فقد أصبحت مقياسًا لكل الأشياء التي يتحمل الفرد المسؤولية عنها ويمكن محاسبته عليها، فهي التي تجعل الإنسانَ إنسانًا، وهي علامته على ما إذا كان هابيلا أم قابيلا.
أما عن فكرة الروح، فقد نشأت، حسب راي المفكر النرويجي، كرد فعل على غموض الموت، وقد كان لدى “إنسان الكهوف” طقوسه الجنائزية، حيث تشير الطريقة التي كان يدفن بها موتاه إلى أنه كان يؤمن بالحياة بعد الموت، أما في الثقافة الأوروبية فقد تغيرت مكانة الروح للمرة الأولى مع عصر النهضة، وعلى وجه الخصوص مع عصر التنوير وادعائه التأسيس العقلاني والعلمي، لكن رغم ذلك لم يتمكن أحد من العلماء من إثبات جوهر الروح بشكل علمي، وقد سعى البعض إلى تنجيمها استنادا إلى المفاهيم الدينية والإيمانية، أما البعض الآخر فقد رأوا أنها مفهوم انتهى بفعل الزمن، وقد حفزت وجهات النظر هذه مؤلف الكتاب، فراح يحقق ما إذا كانت صحيحة، ويوضح مكانة الروح في القرن الحادي والعشرين استنادًا إلى تاريخها في بعض الثقافات والأديان غير الغربية مع عرض المفهوم الخاص بها في الديانتين البوذية والإسلامية، حيث يلعب مصير الروح في كليهما دورًا مهما في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وفي هذا السياق راح “هويستاد” يبحث في ما ذكره القرآن عن النفس والروح، وما يحقق خلاصها مشيرا إلى أنه كان عنصر تحفيز سياسي استنادا إلى أن بعض المسلمين يعتقدون أن بإمكانهم دخول الجنة في الآخرة إذا ضحوا بحياتهم في الجهاد.
وفي الكتاب سعى المؤلف إلى بحث وظيفة الروح والاحتياجات التي تحققها، وقال إنه يمكن فهم سمات الروح والمصير في معظم الثقافات كنتيجة لطريقة حياة الفرد، ولذلك ينصب التركيز الرئيسي على الحياة التي يعيشها الإنسان وعلى كيفية تطوير الفرد لسماته الشخصية والروحية والوفاء بالتزاماته تجاه الآخرين، وهذا، من وجهة نظره، أهم جوانب الروح في العصر الحالي، فرغم أن الروح فرديةٌ تمامًا إلا أنها مشروطة بالعلاقة مع الآخرين، وبدون أخذهم في الاعتبار لا يستطيع المرء أن يصون نفسه، ولذلك تصبح الروح في خطر عندما يستسلم الفرد للحركات الجماعية مثل الشيوعية والفاشية والقومية ووسائل الإعلام وقوى السوق وسوء استخدام السلطة السياسية.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي