كثيراً ما تسألت في صباي وشبابي الباكر: لماذا البحر بعيد عن بلدنا في الصعيد إلى هذا الحد؟ ولماذا ينعم أهل الشمال بمتعة القرب من البحر وآفاقه الإنسانية والثقافية والحضارية المفتوحة، في حين يظل الجنوب محرومًا من ذلك، ويعيش أهله في بيئة محدودة الآفاق معرفيًا، وقاسية في طبيعتها ومنظومتها الثقافية والقيمية.
وكنت أرى هذا البعد جناية الجغرافيا على الصعيد وأهله، وأنه علة عشق أهل الجنوب للإسكندرية التي رحل بعضهم إليها عبر التاريخ منذ تأسيسها بحثًا عن آفاق معرفية وإنسانية واقتصادية واجتماعية وثقافية أكثر رحابة وحميمية، وليخوضوا بهذا الرحيل الواعي وبقربهم من البحر تجربة تحول فكري وثقافي عميقة.
من أبرز هولاء الراحلين إلي الإسكندرية وبحرها في تاريخنا الأدبي القديم الفيلسوف أفلوطين السكندري (٢٠٥ – ٢٧٠م)، الذي ولد في مدينة أسيوط، وعاش بها حتى سن ٢٨ عامًا، ثم رحل إلي الإسكندرية، وأقام وتعلم ودرس الفلسفة بها لمدة ١٢ عامًا، ثم رحل إلى روما حيث أسس مدرسته الفلسفية التي حملت اسم “الفلسفة الأفلاطونية المُحدثة”، وصار أشهر فلاسفة العالم القديم.
ومن أبرزهم أيضا في تاريحنا الأدبي المعاصر، شاعرنا الجنوبي الراحل أمل دنقل (١٩٤٠- ١٩٨٣) الذي كان على وعي تام بمفارقة الجغرافيا الظالمة تلك عندما قال:
“أحب المطر، أحب أن يغسل وجهي، ويغرق شعري ورأسي. في الصعيد نتمنى قطرة منه، وهو هنا في هذه المدينة مباح حتى للبحر الفسيح المليء بالماء، وتظل الأرض عطشى بطول الصعيد”
واظن أن هذا الوعي هو الذي دفعه للجوء النفسي والعقلي والثقافي إلي الإسكندرية عام ١٩٦٢، ليقضي بها عامين كان لهما أعظم الأثر في إثراء تكوينه الروحي والفكري، وفي تعميق وعيه الثقافي، وفي تغيير إحساسه بالحياة ومباهجها، قبل انتقاله للإقامة في القاهرة حتى وفاته عام ١٩٨٣..
في هذا الصدد قال الراحل الدكتور جابر عصفور في مقال له بعنوان “إسكندرية أمل دنقل” نُشر بجريدة الأهرام في يناير ٢٠١٧، موضحًا تأثير الإسكندرية في حياة وعقل وروح أمل دنقل:
“كان لمدينة الإسكندرية فضل كبير على شعر أمل دنقل، فهي التي نقلته من وعي القرية (القلعة) والمدينة الصغيرة في الجنوب (قنا) إلى وعي المدينة الكوزموبوليتانية الزاخرة بالتنوع الخلاق للأعراق والجنسيات”.
إذن فقد كان الوعي المديني الخلاق، هو أعظم ما منحته الإسكندرية وبحرها لأمل دنقل، وهو الوعي الذي حرر روحه وعقله من القيود الفكرية والثقافية التي تربى عليها في قريته ومدينته الجنوبية الصغيرة.
وهو كذلك الوعي الذي أثرى حياته وثقافته وشعره، وجعله روحًا وعقلًا منفتحين، عاشقين للحرية والجمال، ورافضين للاستسلام لقبح وظلم ومحدودية الأمر الواقع.
ومؤخراً قرأت قصيدة للشاعر الفلسطيني يوسف الديك حملت عنوان “يا بحر” فوجدته قد جسد في أبياتها مفارقة الجغرافيا الظالمة في حياة البشر، وعلة شغف أهل الجنوب بالبحر البعيد، الذي وجدوا فيه ملجًأ لهم من قسوة واقعهم، ومن حيرتهم الفلسفية والوجودية، واعتبروه بصخبهه المتناغم ولانهائيته صورة أنفسهم وأعماقهم، حتى تمنوه مثوى وقبرًا لهم.
يقول الشاعر يوسف الديك:
ﻳﺎ ﺑﺤﺮْ …
ﻻ ﺗُﺒﻌﺪ ﺍﻟﺸﻄﺂﻥَ ﺃﻛﺜﺮ ﻋﻦ ﻣﺴﺎﻓﺎﺕ الجنوب
ﺍﺗﺮﻙ ﻟﻨﺎ ﺍﻷﻣﻮﺍﺝ ﺃﻳُّﻬﺎ ﺍﻟﺒﺤﺮُ ﺍﻟﻌﻤﻮﻣﻲّ
فقد ﺍﺧﺘﻨﻘﺖُ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔِ ﻭﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔِ
ﻻ ﺗﺼﺪِّﻕِ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦْ
ﺇﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔَ ﻛﻠّﻬﺎ ﻛَﺬِﺏٌ
ﻳﺎ ﺑﺤﺮ ﺻﺪِّﻗﻨﻲ ﻓﺄﻧﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻮﻻ ﺍﻧﻐﻤﺎﺳﻲ ﻓﻴﻚَ
ﺃﺷﻌﻠﺖُ ﺍﻟﻬﻮﺍﺀَ ﺍﻟﻤﺮّ ﻣﻦ ﻧﺎﺭٍ ﺗُﺆﺟَﺞُ ﻓﻲ ﻟَﻬﻴﺒﻲ
ﺃﻧﺎ ﻻ ﺃُﺭﻳﺪ ﺳﻮﻯ ﻣﺘﺮﻳﻦ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﻤﺎﺀِ ﻗﺒﺮﺍً
ﻓﺎﺣﺘﻮِ ﺃﺿﻼﻉ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﺷﻖِ ﺍﻷﺑﺪﻱ ﻟﺆﻟﺆﺍً ﻭﺯﻣﺮﺩﺍً
ﺑﺄﺻﺎﺑﻊ ﺍﻟﻤﺮﺟﺎﻥ ﻛﻔِّﻨﻲ ﻭﻻ ﺗﻜﺜﺮ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺒﻲ ﺍﻟﻌﺘﺎﺏْ
ﻓﻠﻘﺪ ﺗﻌﺒﺖُ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝِ ﺑﻼ ﺟﻮﺍﺏْ
ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔِ ﻗﺪ ﺗﻌﺒﺖُ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔِ، ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏْ.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي