عاجلمقالات

د. أحمد عمر يكتب: مصر “الكل” في واحد..!

 

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قال الفيلسوف والمؤرخ والكاتب الفرنسي إرنست رينان: “لا وجود للأمة دون وجود رغبة بين أفرادها في العيش معًا، ورغبة في بناء شيء معًا”. وأظن أن هذه الرغبة هي جوهر وجود الأمة وسر استمرارها وتميزها وتقدمها، وهي رغبة تتأسس على معرفة ومفاهيم وقيم وأحلام مُشتركة بين أفرد هذه الأمة، وبين السلطة ومؤسسات الدولة المختلفة وبين الشعب.

وبغياب هذه المعرفة والمفاهيم والقيم والأحلام المُشتركة، وبغياب الرغبة في العيش معًا وبناء شيء معًا لصنع تقدم الدولة، تُصبح الأمة في خطر، وتُصبح جهود التنمية في مهب الريح، ويصبح الوطن مهدد دائمًا بالانقسام على ذاته، والوطن المُنقسم على ذاته لا يُمكن أن يحميه في مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية أي سور، كما قال المؤرخ اليوناني الشهير توكيديدس.

وبناء على وجهة النظر السابقة، أظن أن أزمة مصر الاجتماعية والسياسية والثقافية في العقود الماضية، التي لم نتصد بعد لبحث أسبابها ومظاهرها ومآلاتها ومخاطرها المستقبلية، قد نبعت من عدم وجود حد أدنى من المعرفة والرؤى والمفاهيم والقيم والأحلام المُشتركة بين أفراد المجتمع المصري بطبقاته المختلفة، وبين السلطة ومؤسسات الدولة وبين الشعب. كما نبعت أيضًا من عدم وجود مفهوم واضح ومشترك بين المصريين حول مصر وثقافتها وهويتها وميراثها الحضاري، وحول انتماءاتها وأبعادها المختلفة، وحول خياراتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وأحلامها وطموحاتها التي تسعى لتحقيقها على أرض الواقع.

ولهذا فالجميع في مصر اليوم يتحدثون عن مصر مختلفة عن مصر الخاصة بالمصريين الآخرين، ويفكرون فيها انطلاقًا من موقعهم من السلطة، ووضعهم الطبقي ومصالحه الخاصة؛ حتى أوشكت مصر أن تتحول إلى مجموعة من الجزر المُنعزلة التي لا يجمع بينها روابط وقواسم وأحلام مُشتركة.

وأظن أن هذا الانقسام المعرفي والثقافي والقيمي والطبقي الحاد بين المصريين، وكذلك الفجوة بين رؤى وطموحات وأهداف السلطة والشعب، وعدم مد جسور الحوار والفهم المتبادل بينهم، هو الخطر الحقيقي الذي تُواجهه مصر في الحاضر والمستقبل، وهو الذي يفتح الباب لتبديد الفرص والإمكانات وجهود التنمية، كما يُهدد بإعادة إنتاج أخطاء الماضي.

لهذا يجب أن تكون الأولوية القصوى الآن – لكل مصري وطني مهموم بماضي وحاضر ومستقبل بلاده، ولكل حوار وطني – هي إعادة توحيد المجتمع المصري على مستوى الوعي والقيم والثقافة والحلم، والعمل على وضع عقد اجتماعي وثقافي ووطني جديد في مصر يربط بين رؤى وأحلام وطموحات الحكام وأهل السلطة وبين الشعب والجماعة الوطنية، ويُجسر الهوة العميقة التي صارت تفصل بينهما.

عقد اجتماعي وثقافي جديد، يُعيد الروح للمصريين، ويُنمي وعيهم النقدي والتاريخي والوطني، ويؤهلهم لعيش عصرهم ومواجهة متغيراته وتحدياته، وصنع مستقبل يليق بتضحيات الأجداد والآباء، ويليق بالتاريخ الذي يحمله المصريون على ظهورهم، ويليق بمكانة مصر الإقليمية والدولية ورسالتها الحضارية عبر العصور المختلفة.

عقد اجتماعي جديد يَدعم الروابط والقواسم المشتركة بين المصريين بمختلف مواقعهم وطبقاتهم، ويمد بينهم جسور الحوار والفهم المتبادل والثقة وقبول الآخر، ويُؤسس على مبدأ جوهري يقول: إن الوحدة بلا تعدد خواء وموت، وإن التعدد بلا وحدة تناقض وتنافر، وهدفنا جميعًا أن نسمح بيننا بالاختلاف والتنوع الذي يُثري المجموع ويصب في صالح الوطن الكل الجامع. وأن نجعل مصر هي “الكل” في واحد. وأن نكون متوحدين نسمح بالتنوع وحق الاختلاف فيما بيننا، وأن نكون مختلفين ولنا ثوابت وأهداف وأحلام وطنية واحدة، ولنا رغبة في العيش معًا وفي البناء معًا.

 

 

لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي

زر الذهاب إلى الأعلى