سى أس لويس فى “الطلاق العظيم” يثير التفكير حول مفهومى الجنة والجحيم
يُعد كلايف ستابلز لويس (سى أس لويس) من عمالقة الفكر والأدب واللاهوت فى القرن العشرين، كما يُعد أحد أكثر الكتاب تأثيرًا فى عصره. فهو مؤلف وعالم لاهوتى مشهور، ومدرس للأدب الإنجليزى فى جامعة أكسفورد حتى عام ١٩٥٤. وقد تم انتخابه بالإجماع لرئاسة قسم الأدب فى العصور الوسطى وعصر النهضة فى جامعة كامبريدج، وهو المنصب الذى شغله حتى تقاعده.
كتب أكثر من ثلاثين كتابًا، وتستمر أعماله فى جذب الآلاف من القراء الجدد كل عام، تُرجمت أعماله بأكثر من ٣٠ لغة، كما بيعت ملايين النسخ منها عبر السنين. وكانت سجلات نارنيا الأكثر مبيعًا، وتم تحويلها فى أشكال مسرحية وتلفزيونية والإذاعية وسينمائية.
وُلد لويس فى بلفاست، أيرلندا فى ٢٩ نوفمبر ١٨٩٨ وتوفى فى ٢٢ نوفمبر ١٩٦٣، وقد تعمد فى كنيسة أيرلندا عند الولادة، ولكنه ارتد عن إيمانه فى سن المراهقة. وبفضل تأثير تولكين وغيره من الأصدقاء، رجع لويس إلى المسيحية فى الثلاثين من عمره، وأصبح عضوًا عاديًا فى كنيسة إنجلترا. وقد أثر تحوله الدينى تأثيرًا عميقًا على عمله، وجلبت له إذاعاته فى زمن الحرب العالمية الثانية بشأن المسيحية شهرة واسعة.
كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة الخلفية لأكثر فترات لويس كثافة فى الدفاع عن العقيدة. ففى عام ١٩٤٠ نشر كتاب «مشكلة الألم» وفى عام ١٩٤١ نشرت مجلة تسمى الجارديان رسائل سكروتاب، والتى نُشرت فى كتاب عام ١٩٤٢. وأصبح معروفًا على المستوى الوطنى من خلال أربع سلاسل من المحادثات الإذاعية حول مواضيع مسيحية فى أعوام ١٩٤١ و١٩٤٢ و١٩٤٤؛ وقد نُشرت ككتب منفصلة، ثم تمت مراجعتها ودمجها لاحقًا تحت عنوان «المسيحية المجردة» (١٩٥٢). كما نشر مقدمة لكتاب «الفردوس المفقود» (١٩٤٢)، وإلغاء الإنسان (١٩٤٣)، والروايات الرومانسية الكوكبية «بيريلاندرا» (١٩٤٣) وتلك القوة البشعة (١٩٤٥)، ويُعد كتاب «الطلاق العظيم» أحد أعماله البارزة ١٩٤٥.
كما سافر لويس عبر البلاد لإلقاء محاضرات عن المسيحية لأفراد سلاح الجو الملكى البريطانى، ولعب دورًا مهمًا فى إحياء المسيحية فى زمن الحرب. وكان يرى العائدات التى حصل عليها من أعماله الاعتذارية بمثابة هدية من الله، فكان يوزعها على أعماله الخيرية السخية والسرية. وفى عام ١٩٤٦ حصل على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة سانت أندروز. يُعدُّ هذا العمل الفريد «الطلاق العظيم» رواية مسيحيَّة كلاسيكيَّة، ومن المثير للاهتمام أن استخدام مصطلح «الطلاق» فى العنوان يشير إلى فصل الجنة عن الجحيم، وليس الطلاق الزوجى.
يقدم لويس قصة رمزية مثيرة للتفكير حول مفهومى الجنة والجحيم، استنادًا إلى رؤية حلم لاهوتية له يتأمل فيها المفاهيم المسيحية للجنة والجحيم. كان عنوان العمل هو «من يعود إلى الديار؟» ولكن تم تغيير الاسم النهائى بناءً على إصرار الناشر، ويشير العنوان إلى قصيدة الشاعر والكاتب والرسام ويليام بليك «زواج الجنة والجحيم». أوضح «لويس» فى مقدمته: «لقد كتب (بليك) عن زواج النعيم بالجحيم، وإذا ما كنت قد كتبت عن طلاقهما، فذلك ليس اعتقادًا منى أننى الند المناسب لمثل تلك العبقرية العظيمة، وليس لشعورى مطلقًا بمعرفة ما يعنيه ذلك.
ولكن بطريقة أو بأخرى، فإن الأمر ليس إلا محاولة لجعل هذا الزواج خالدًا. وتستند تلك المحاولة إلى الاعتقاد بأن الواقع لا يقدم لنا احتمالات حتمية تمنح المهارة والصبر وقبل كل شىء الوقت الكافى لإيجاد طريقة ما لاحتضان كل البدائل دائمًا، والتى يمكن لتعديلها أو صقلها أو تحويلها أن يغير الشر بطريقة ما إلى خير دون أن ننادى برفض نهائى وكامل لأى شىء نرغب فى الاحتفاظ به». ويتفاعل لويس مع النسبية الأخلاقية (زواج الجنة والجحيم) باقتراح أنه «لا يمكنك أن تأخذ كل الأمتعة معك فى جميع الرحلات؛ فى رحلة واحدة قد تكون حتى يدك اليمنى وعينك اليمنى من بين الأشياء التى يجب أن تتركها وراءك».
و من خلال رحلة خيالية، يتعمق الكتاب فى طبيعة الخير والشر، وعواقب أفعالنا، وإمكانية الخلاص. إنه يتحدى القراء للتفكير فى معتقداتهم وقيمهم الخاصة، وفى النهاية يقدم رسالة أمل وتحول. ومن خلال سرد آسر يتحدى عقل القارئ ويدفعه إلى التشكيك فى معتقداته بشأن الحياة الآخرة. وبفضل أسلوبه القصصى الخيالى وأوصافه الحية، يقدم الكتاب رحلة مثيرة للتفكير تبقى فى الأذهان لفترة طويلة بعد الصفحة الأخيرة، من خلال سلسلة من اللقاءات مع شخصيات مثيرة للاهتمام، ويخوض الكتاب بعمق فى أسئلة أخلاقية وفلسفية معقدة. تدور أحداث الرواية فى إطار خيالى عن الحياة الآخرة، وينطلق الراوى فى رحلة من مكان يُفترض أنه الجحيم أو المطهر، وهى بلدة كئيبة رمادية اللون حيث تمطر إلى الأبد ولا يستطيع أحد أن يجد الرضا، إلى جنة نابضة بالحياة وواسعة. ويستقل الراوى، برفقة مجموعة من الأفراد الذين يتوقون إلى بداية جديدة، حافلة من البلدة الرمادية. وعلى الرغم من رحلتهم المشتركة، فإننا نتعلم أن هذه الأرواح معزولة تمامًا، مما يرمز إلى أنانيتهم والصدع فى علاقاتهم.
و عند وصوله إلى أطراف الجنة، يلاحظ الراوى أن الجنة صلبة بشكل لا يمكن تصوره مقارنة بالكيانات الشبيهة بالأشباح. تحتاج الأشباح إلى تحمل الألم للمشى على العشب أو قطف التفاح، مما يُظهِر صراع احتضان الفضائل للتكيف مع الجنة. يلتقى كل شبح بشخص من الجنة لإقناعه بالتخلى عن روابطه الأرضية والدخول إلى أفراح الجنة. إن الحوارات التى تدور بين شبح الجحيم والأفراد المباركين تقدم لنا نظرة عميقة إلى الطبيعة البشرية. ومن وجهة نظر لويس، يختار كثيرون الجحيم على الجنة بسبب تمسكهم برغبات أرضية معينة أو عجزهم عن التخلى عن المرارة أو الكبرياء. ويدور أحد أكثر الحوارات إقناعًا بين شبح الفنان وملاك.
والذى يمثل وجهات نظر لويس فى الفن. وبعبارة أخرى، فإن الإبداع الحقيقى ينبع من حب الإبداع نفسه، وليس الرغبة فى الشهرة المرتبطة به. وعندما يعبر شبح الفنان عن رغبته فى توثيق المناظر الطبيعية فى الجنة، يرد الملاك بأن تجربة الفرح بشكل مباشر يجب أن تكون فى مرتبة أعلى من إعادة خلقها للآخرين. ويصور حوار آخر جدير بالملاحظة شبحًا يستهلكه الاستياء المرير وتشجيع الملاك على المغفرة. ومن خلال هذه السرديات الفلسفية، يؤكد لويس على أهمية الحب غير الأنانى لله والآخرين ويلقى الضوء على الخطايا التى يمكن أن تعمى الأفراد عن أفراح السماء. وبعد ذلك، يلتقى الراوى بمرشده الروحى، جورج ماكدونالد، الذى يرشده إلى فهم أن أبواب الجحيم مغلقة من الداخل، مما يعنى أن الأفراد يحملون مفاتيح خلاصهم. يمكن لأولئك الموجودين فى الجحيم الوصول إلى الجنة إذا تخلوا عن خياراتهم المدانة واحتضنوا محبة الله الوفيرة. فى النهاية، يستيقظ الراوى من مغامراته الشبيهة بالأحلام، ويستشعر نداءً لاتخاذ الخيارات الصحيحة فى حياته الأرضية. وفى النهاية، يقدم لنا كتاب «الطلاق العظيم» استكشافًا مثيرًا للاهتمام للحياة الآخرة والاختيارات البشرية، ويجسد الرحلة الشجاعة التى تخوضها الأرواح من الجحيم إلى الجنة ويؤكد على قدرتنا على تحديد مصيرنا الروحى.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي